د.عصام الدين أحمد محمد بابكر

أستاذ جامعي

مختص بالفكر الإسلامي

مختصر بالدراسات المستقبلية

0

No products in the cart.

د.عصام الدين أحمد محمد بابكر

أستاذ جامعي

مختص بالفكر الإسلامي

مختصر بالدراسات المستقبلية

مقال من المدونة

ما الحرية؟؟

أكتوبر 2, 2022 Uncategorized

ما الحرية؟؟
الحرية قيمة إنسانية اعتنت بها الشريعة، وشرعت التشريعات لضمان تمتع كل أفراد المجتمع بها، ووضع الفقهاء القواعد الفقهية التي تؤكد عناية الشريعة بها فقالوا: [الشارع الحكيم متشوِّف للحرية]..
ولكن مصطلح الحرية تغير من الاستعمال السابق، إلى معنى آخر ذي مضامين اجتماعية ودلالات سياسية، أبعد مما اعتاد الفقهاء إطلاقه عليه..
أما ممارسة الحريات الفكرية والسياسية والاقتصادية فقد كانت متاحة في حياة المسلمين دون حاجة لتنظير سياسي أو تأطير دستوري..
حتى يتبين لنا المقصود؛ لنقف عن قرب على معنى الحرية، ثم نحاول إسقاطه على الممارسة الحالية..
جاء في المعجم الوسيط: الْحر الْخَالِص من الشوائب يُقَال ذهب حر لَا نُحَاس فِيهِ، وَفرس حر عَتيق الأَصْل، والحر: الخالص من الرّقّ والكريم، والجمع: أَحْرَار، وَهِي حرَّة، والجمع: حرائر.
وَالحر من الْأَشْيَاء أفضلهَا.. وَمن القَوْل أَو الْفِعْل الْحسن مِنْهُ يُقَال هَذَا من حر الْكَلَام، وَمَا هَذَا مِنْك بِحُرٍ والمعنى ليس بِحسن وَلَا جميل.. وَيُقَال سَحَابَة حرَّة أي كَثِيرَة الْمَطَر..
وعرفها المرتضى الزبيدي بأنها: كرَمُ الأَصْلِ… فلمَّا يقال: أحرار العَربِ: فالمقصود أشرافُهُم..
وتطلق كلمة الحرية ويراد بها: الفضل وسمو الكمال، والمنزلة الرفيعة، فيطلق لفظ الْحُرِّ على الإنسان كريم الأصل استعارة، في حين يطلق لفظ الْعَبْدِ لِلَّئِيمِ..
وجاء في معجم لغة الفقهاء: الْحُرِّيَّة: الخلوص من الشوائب أَو الرّقّ أَو اللؤم، وَكَون الشّعب أَو الرجل حرا…
فالحرية: هي القدرة على التصرف بملء الإرادة والاختيار، والمقصود: (رفع اليد عن الشيء من كل وجه، والتحرير التهذيب وأخذ الخلاصة).
صفوة القول: (حقيقة الحرية الخلوص)، وبهذا يتوافق هذا المعنى مع الاصطلاح الشرعي، حيث وصفت الحرية بأنها خلوص حكمي يظهر في الآدمي لانقطاع حق الغير عنه…، ويقابل الحرّ والحرية الرق.
فإذا رجعنا لمعنى الرِّق في المعاجم سنجده: عبارة عن (عجز) حكمي شُرعَ في الأصل جزاءً عن الكفر ويقابلُه الحرية، وبهذا فالحرية قدرة وقوة ما دام نقيضها عجز، وهي خلوص وشرف..
والحرية قدرة على ممارسة الحياة دون قيد إلا ما يضر بالآخرين، وهي تشريف للإنسان وتكريم له، ولذلك قال الفقهاء: (الأصل في الناس الحرية؛ لأنهم أولاد آدم وحواء عليهما السلام، وقد كانا حرين).
وهي أيضا تمكين الإنسان من العيش والعمل والتحدُّث وإبداء الرأي بلا خوف ولا إكراه..
وللحرية مظاهر كثيرة في الفكر السياسي الإسلامي: (فهناك حرية النصح والإرشاد، وإبداء الرأي، والنقد وفق معايير سليمة، وهناك حرية التملك والتصرف، وحرية العمل والكسب المشروع. وهناك حرية التفكير والاختيار وهو جوهر الحرية الإنسانية).
ونجد في السنة المطهرة أحاديث كثيرة تؤكد ما ذكرته آنفا، فقد سأل النبي ﷺ جعفر بن أبي طالب لما عاد من هجرته عن أعجب شيء رآه بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. قَالَ: مَرَّتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فِيهِ طَعَامٌ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ فَأَصَابَهَا فَرَمَى بِهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا وَهِىَ تُعِيدُهُ فِي مِكْتَلِهَا وَهِىَ تَقُولُ: وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. فَضَحِكَ النَّبيُ ﷺ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ: (كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لَا تَأْخُذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ شَدِيدِهَا حَقَّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ؟).
وربما يستغرب الإنسان ويتملكه العجب إذا علم أن النبي ﷺ طبق هذا المبدأ على نفسه: فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مشهدا شهده في مجلسه ﷺ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي.
فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: وَيْحَكَ، تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ؟) ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: (إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْر فَنَقْضِيَكِ).
فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ.
فَقَالَ [أي الأعرابي]: أَوْفَيْتَ، أَوْفَى اللَّهُ لَكَ.
فَقَالَ ﷺ: (أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ).
وفي رواية الحاكم عن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، قَالَ بعد أن أدى الحقوق لأهلها: كَذَلِكَ يَفْعَلُ عِبَادُ اللهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَتَرَحَّمُ عَلَى أُمَّةٍ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ مِنْهُمْ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ، وفي رواية قال: (إن الله تعالى لَا يُقَدِّسُ أمة لا تنصر ضَعِيفُهَا).
فائدة: يقال تعتع الرجل: إذا تبلَّد في كلامه، وكل من أكره في شيء حتى يقلق فقد تُعْتِع، ومعنى كلام النبي ﷺ: من غير أن يصيبه أذى يقلقله ويزعجه.
ثم إنه من الشائع بين الفقهاء والمعنيين بالفكر السياسي الإسلامي المعاصر تعريف الحرية بأنها: [المطالبة بالحقوق، والوقوف عند الحدود]. بمعنى أن المواطن له كامل الحرية في المطالبة بحقوقه، بشرط أن يقف حدوده، لا يتعداها، ويفي بالواجبات التي عليه، لا يهملها.. فالمواطنة أخذ وعطاء، وتحمل للمسؤوليات في إطار المجتمع الواحد المتماسك.
فإذا رجعنا لتراثنا سنجد نماذج حية في ممارسة حرية إبداء الرأي، مثال ذلك ما حصل من المرأة التي ناهضت قرار سيدنا عمر عندما أراد معالجة غلاء المهور، فقد ذُكِر أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر وقال: (أَيُّهَا النَّاسُ مَا إِكْثَارُكُمْ فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ؟ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَإِنَّمَا الصَّدَقَاتُ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ مَكْرَمَةً لَمْ تَسْبِقُوهُمْ فَلا أَعْرِفَنَّ مَا زَادَ رَجُلٌ صَدَاقَ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ).
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَهَيْتَ النَّاسَ أَنْ يَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدَقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (20)}، فَقَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرَانَكَ، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدَقَاتِهِمْ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ). المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي: 2/334- 335.
الشاهد من الخبر أن المرأة مارست حقها في النصح وإبداء الرأي بعفو خاطر غير متعتعة، وتقبَّل أمير المؤمنين رضي الله عنه قولها ولم ينكر عليها، كيف لا؟ وقد تقرر عند الفقهاء أنه لا تثريب على المطالبة بالحقوق إذا صدرت من مدعيها ولا ينكر عليه، ولا يوبخ بسبب ذلك.
فإذا أردنا إسقاط الشواهد التاريخية على واقعنا، فهل نجد لها مثالا أو نموذجا يحتذى؟
لنرجع إلى كلام من سبقنا:
يعطينا الجلال السيوطي في [معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم] معنى عاما للحرية فيصفها بأنها: أَفعَال، وأخلاق محمودة لَا تستعبدها المطامع، والأغراض الدنية.. وقال في موضع آخر من نفس الكتاب: الحُرِّيةُ أَلا يكون تَحت رق الْمَخْلُوقَات، وَلَا يجْرِي عَلَيْهِ سُلْطَان المكونات.
ولكن واقعنا يخبرنا أن المطالبين بالحريات، إنما يتطلعون لإطلاق العنان لشهواتهم بادعاء الحريات الشخصية، وقد تقرر عند الأقدمين أن الإنسان إذا استغرق في ملذاته، فإنه سيكون عبدا لها، لذلك قالوا:
الحر عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن الحلاج قوله:
طلبت المستقر بكل أرض * فلم أر لي بأرض مستقرا
وذقت من الزمان وذاق مني * وجدت مذاقه حلوا ومرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني * ولو أني قنعت لعشت حرا
ولنلاحظ كم يستغل الساسةُ الشبابَ ويقدمونهم وقودا لتحقيق أطماعهم في الجاه، وقديما قال بعض الحكماء: (قلوب الجهال تستعبد بالأطماع وتسترق بالمنى وتعلل بالخدائع)، فكم من مخدوع بأماني السراب السياسي؟! ثم آخر المطاف يجد العمر قد ضاع والأماني تبخرت، ولا ساعة مندم.
بقي كلام عن حرية الفكر وتكوين منظمات المجتمع المدني وما شابه ذلك..
وبالله التوفيق

أكتب تعليقا